مع قدوم الخريف في فلسطين، يذكر الدكتور راسم بشارات إلى أن موسم قطف الزيتون كحدث سنوي يتجاوز طابعه الزراعي ليصبح طقسًا وطنيًا وروحيًا يربط الفلسطينيين بأرضهم وهويتهم. يعكس هذا الموسم علاقة الفلسطيني بالأرض كجزء من كينونته، إذ يجسد شجرة الزيتون روح السلام والثبات، ويقف شاهدًا حيًا على عمق الجذور التي تربط الإنسان بأرضه منذ آلاف السنين، في مواجهة سياسات الاحتلال التي تستهدف الشجر والبشر معًا.
ذكرت منصة ميدل إيست مونيتور أن الزيتون ينتشر في معظم مناطق فلسطين التاريخية، لا سيّما محافظات نابلس وجنين ورام الله وطولكرم وبيت لحم، بينما تشتهر الخليل وغزة بأصناف مميزة. وتغطي أشجار الزيتون أكثر من نصف الأراضي الزراعية الفلسطينية، ما يجعلها العمود الفقري للقطاع الزراعي ومصدر دخل رئيسي لعشرات آلاف العائلات.
تشير الدراسات الأثرية إلى أن زراعة الزيتون في بلاد الشام تعود إلى أكثر من ستة آلاف عام، وتحتل الشجرة مكانة مقدسة في الوجدان الفلسطيني، إذ ارتبطت بالأمثال والأغاني الشعبية كرمز للسلام والصبر. عبر العصور، من الكنعانيين والرومان حتى اليوم، ظل الزيتون شاهدًا على تمسّك الفلسطينيين بأرضهم رغم الحروب والاحتلال والتهجير.
اقتصاديًا، تشكل هذه الشجرة ركيزة أساسية للاقتصاد الفلسطيني. يعتمد أكثر من مئة ألف أسرة على هذا القطاع كمصدر رزق مباشر، ويولّد موسم الحصاد آلاف الوظائف الموسمية. كما يشكل زيت الزيتون الفلسطيني، المصنف من الأجود عالميًا، موردًا رئيسيًا للصناعات الغذائية والتقليدية كالصابون، ما يعزز الأمن الغذائي وصمود المزارعين في وجه السياسات الاستيطانية.
لكن مشهد الحصاد المبهج هذا يتقاطع اليوم مع واقع مؤلم. في موسم 2025، تحوّلت بساتين الزيتون إلى ساحات مواجهة مع الاحتلال والمستوطنين. وثّقت منظمات حقوقية اقتلاع أو تدمير نحو 9700 شجرة زيتون في أنحاء الضفة الغربية منذ بداية العام.
في بلدة المغير شمال رام الله، اقتلع جيش الاحتلال نحو 3000 شجرة بحجة "أسباب أمنية"، وقطع المستوطنون 200 شجرة أخرى في مايو. وفي الساوية جنوب نابلس، دُمّر 35 شجرة، بينما شهدت سلفيت اقتلاع 100 شجرة إضافية، وفي مسافر يطا جنوب الخليل دُمّر 200 شجرة، أما في عزون بمحافظة قلقيلية فاقتُلعت 55 شجرة معمّرة. وبحلول منتصف العام، خسرت محافظات بيت لحم ورام الله ونابلس ما لا يقل عن 6144 شجرة زيتون.
هذه الأرقام لا تعبّر عن موسم واحد فقط، بل عن عقود طويلة من الاستهداف الممنهج. منذ عام 1967، تشير الدراسات إلى اقتلاع أكثر من 800 ألف شجرة زيتون في الضفة وغزة، ما يعكس حجم الدمار المتراكم الذي طال المشهد الزراعي الفلسطيني عبر الأجيال.
توثّق منظمات مثل البيادر ووكالات الأمم المتحدة ازدياد الهجمات على المزارعين خلال فترات التوتر السياسي، خصوصًا بعد أكتوبر 2023، حين ارتفعت وتيرة الاعتداءات إلى مئات وآلاف الأشجار المدمّرة. وتتعدّى هذه الانتهاكات الاقتلاع إلى سرقة الثمار، ومنع الوصول للأراضي، واعتداءات متكرّرة تُظهر سياسة إسرائيلية ممنهجة تهدف لاقتلاع الفلسطيني من أرضه.
شهدت الأيام الأخيرة سلسلة من الانتهاكات:
- في كفر قدّوم شرق قلقيلية، خرّب المستوطنون نحو 50 شجرة.
- في مرج سياح بين أبو فلاح وترمسعيا، قطع المستوطنون أشجارًا بهدف الاستيلاء على الأرض.
- في وادي الربابة قرب سلوان، سرق مستوطنون محصول الزيتون بينما منعت القوات أصحاب الأراضي من دخولها واعتدت عليهم.
- في رنتيس غرب رام الله، احتجزت القوات المزارعين ومنعتهم من القطف إلا بتصاريح خاصة.
هذه الانتهاكات لا تبدو حوادث فردية، بل جزء من سياسة متصاعدة تستهدف البيئة الزراعية الفلسطينية وتحرم الأهالي من موردهم الأساسي خلال موسم يحمل بعدًا اقتصاديًا وثقافيًا عميقًا.
ورغم كل ذلك، يواصل الفلسطينيون قطف الزيتون كفعل مقاومة يومي. تنظم اللجان الشعبية ومتطوعون محليون ودوليون حملات لمرافقة المزارعين وحمايتهم في الحقول، في مشهد يعكس تصميمًا على التمسك بالأرض رغم الخطر.
في ختام المقال، يؤكد بشارات أن موسم الزيتون في الضفة الغربية لم يعد موسمًا زراعيًا فحسب، بل معركة من أجل البقاء والهوية. وبينما تواصل الجرافات الإسرائيلية اقتلاع الأشجار وتجفيف الجذور، يواصل الفلسطينيون زراعتها وحصادها جيلاً بعد جيل، ليقولوا إن ارتباطهم بالأرض لا موسمي ولا طارئ، بل هو جذر ضارب في التاريخ لا يمكن اقتلاعه.
مهما بلغ عدد الأشجار المقتلعة، سواء آلافًا كل عام أو مئات الآلاف عبر العقود، تظل شجرة الزيتون في فلسطين رمزًا خالدًا للصمود والانتماء، ودليلًا على أن الفلسطينيين باقون على أرضهم رغم كل محاولات الاقتلاع.